مؤسسة القرآن والعترة الثقافية مباهلة

ملخص الحادثة

نَجْرَان إحْدَى مُدُنِ مِنْطَقَةِ الْحِجَازِ الْوَاقِعَةِ عَلَى حُدُودِ الْيَمَنِ. فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، كَانَ أَهْلُهَا يَعِيشُونَ حَسَبَ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ، إِلَى أَنْ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِلْهِجْرَةِ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأَسْلَمَ جَمْعٌ غَفِيرٌ، وَلَكِنْ بَقِيَ قِلَّةٌ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ.

كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رِسَالَةً إِلَى كِبَارِ نَصَارَى نَجْرَانَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ: «بِسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ؛ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى أَعْظَمِ قِسِّيسِي نَصَارَى نَجْرَانَ. إِنِّي أَدْعُوكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ الْوَاحِدِ. إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تُسْلِمُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا الْإِسْلَامَ فَعَلَيْكُمْ أَدَاءُ الْجِزْيَةِ، وَإِلَّا فَإِنِّي أُعْلِنُ لَكُمُ الْحَرْبَ».

فَلَمَّا وَصَلَتْهُمْ رِسَالَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَخَذَهُمُ الرُّعْبُ، وَبَعْدَ مُشَاوَرَةٍ، قَدِمُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِوَفْدٍ مُكَوَّنٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَخْصًا بِرِئَاسَةِ ثَلَاثَةِ قِسِّيسِينَ اسْمُهُمْ «الْأَهْتَمُ» وَ «الْعَاقِبُ» وَ «السَّيِّدُ».

وَصَلَ الْوَفْدُ الرُّوحَانِيُّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَوَجَّهَ مُبَاشَرَةً إِلَى الْمَسْجِدِ، حَيْثُ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وَعِنْدَمَا أَحَسُّوا بِوُقُوتِ صَلَاتِهِمْ، دَقُّوا النَّاقُوسَ إِعْلَانًا لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ. فَسَاءَ ذَلِكَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فِي مَسْجِدِكَ يُسْمَعُ صَوْتُ النَّاقُوسِ؟! فَقَالَ: «دَعُوهُمْ يُتِمُّوا عِبَادَتَهُمْ، ثُمَّ ادْعُوهُمْ إِلَى هُنَا!».

بَعْدَ أَدَاءِ مَرَاسِمِ الْعِبَادَةِ، أَتَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ: مَا ادِّعَاؤُكَ؟ فَقَالَ: «إِنِّي أَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِينِ التَّوْحِيدِ وَأَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. وَمِنْ مَنْظُورِ دِينِي، فَإِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الْمَاءَ وَيَتَكَلَّمُ».

فَسَأَلَهُ الْقِسِّيسُونَ النَّصَارَى: «إِذَا كَانَ عَبْدًا لِلَّهِ، فَمَنْ هُوَ أَبُوهُ إِذًا؟!».

فِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ، نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَاذَا يَقُولُونَ فِيهِ؟ أَلَيْسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَمَخْلُوقُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتَكَلَّمُ كَسَائِرِ الْعِبَادِ؟!

فَلَمَّا سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَجَابُوا: نَعَمْ كَانَ كَذَلِكَ. فَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: حَسَنًا! فَمَنْ كَانَ أَبُو آدَمَ؟ فَعَجَزُوا عَنِ الْإِجَابَةِ وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي حَيْرَةٍ وَدَهْشَةٍ.

فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: **{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}** [آل عِمْرَانَ: 59]. فَوِلَادَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدُونِ أَبٍ لَا تُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ، وَإِلَّا لَجَبَرَ أَنْ يُعْتَبَرَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَقَّ بِالْأُلُوهِيَّةِ، حَيْثُ لَا أَبَ لَهُ وَلَا أُمَّ.

عِنْدَمَا عَجَزُوا عَنِ الْإِجَابَةِ، دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْإِسْلَامِ، فَتَظَاهَرُوا بِالْإِسْلَامِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْمَوْقِفِ قَائِلِينَ: «أَسْلَمْنَا!».

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا! تَكْذِبُونَ! إِنَّ حُبَّكُمْ لِصَلِيبِ عِيسَى الْمَوْهُومِ وَشُرْبَكُمُ الْخَمْرَ وَأَكْلَكُمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ يَمْنَعُكُمْ مِنْ قَبُولِ دِينِ الْحَقِّ فِي قُلُوبِكُمْ!».

وَلَمَّا أَبَوْا قَبُولَ الْحَقِّ، نَزَلَتْ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ آيَةُ الْمُبَاهَلَةِ: **{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}** [آل عِمْرَانَ: 61].

بَعْدَ سَمَاعِ الْآيَةِ، قَالَ نَصَارَى نَجْرَانَ: «هَذَا عَدْلٌ». وَاتَّفَقُوا عَلَى وَقْتٍ لِلْمُبَاهَلَةِ وَرَجَعُوا لِلاتِّحَادِ. فِي اجْتِمَاعٍ لَهُمْ، قَالَ كَبِيرُهُمْ: «إِنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ غَدًا بِأَصْحَابِهِ لِلْمُبَاهَلَةِ فَبَاهِلُوهُ فَهُوَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. وَلكِنْ إِنْ جَاءَ بِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَا تُبَاهِلُوهُ، فَإِنَّهُ إِنِ اخْتَارَ أَقَارِبَهُ وَخَاطَرَ بِهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ».

فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، جَاءَ النَّصَارَى وَوَقَفُوا فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ، وَإِذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي وَهُوَ يَحْمِلُ طِفْلًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُمْسِكُ بِيَدِ طِفْلٍ آخَرَ، وَيَمْشِي خَلْفَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ بِهَيْبَةٍ وَجَلَالٍ رُوحَانِيٍّ عَظِيمٍ. وَأَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَرَافِقِيهِ قَائِلًا: «إِذَا لَعَنْتُ فَقُولُوا: آمِينَ».

سَأَلَ رَهْبَنَةُ نَجْرَانَ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ: «مَا صِلَةُ هَؤُلَاءِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟» فَأَجَابُوهُمْ: «ذَاكَ الرَّجُلُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صِهْرُهُ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ، وَالطِّفْلَانِ هُمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ».

فَاضْطَرَبَ الرَّهْبَنَةُ وَقَالَ كَبِيرُهُمْ: «إِنِّي لَأَحِسُّ الْعَذَابَ قَرِيبًا! فَإِنَّهُ ذُو إِيمَانٍ رَاسِخٍ، وَإِلَّا لَمَا جَاءَ بِأَعِزَّتِهِ. إِنْ لَعَنَّا فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَسَنَهْلِكُ جَمِيعًا وَلَنْ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!».

فَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «يَا أَبَا الْقَاسِمِ! لَنْ نُبَاهِلَ. لِكُلٍّ دِينُهُ».

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِذًا فَأَسْلِمُوا».

فَقَالَ الْأُسْقُفُ: «لَنْ نُسْلِمَ، وَلَكِنَّنَا سَنُؤَدِّي الْجِزْيَةَ كَأَهْلِ الْكِتَابِ».

فَقَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَصَالَحَهُمْ.